المادة    
ثم ذكر الشارح جواب الذين يحرمون الاستثناء فقال: (وأجابوا عن الاستثناء الذي في قوله تعالى: (( لَتَدْخُلُنَّ الْمَسْجِدَ الْحَرَامَ إِنْ شَاءَ اللَّهُ آمِنِينَ مُحَلِّقِينَ ))[الفتح:27] بأنه يعود إلى الأمن والخوف، فأما الدخول فلا شك فيه، وقيل: لتدخلن جميعكم أو بعضكم؛ لأنه علم أن بعضهم سيموت) وهذا قد يكون له وجهة في بادئ الأمر، أي: أنه ما دام الله تعالى وعدهم في هذه السنة مثلاً ولم يدخلوا إلا في العام القادم مثلاً، أو ما بين الوعد وحلول الأجل قد يموت منهم من يموت.
إذاً: الاستثناء في الآية استثناء مقصود، أي: أنه للشك، ومقصود الاستثناء: أن بعضهم سيموت، فهو استثناء على حقيقته، أي: أنه تعليقاً وليس تحقيقاً، فالأمر معلق بدخول البعض، أو أن الأمر معلق بالأمن وليس بالدخول.
ثم يقول: [وفي كلا الجوابين نظر] بل نقول: وكلا الجوابين خطأ، قال: [فإنهم وقعوا فيما فروا منه] أي: في الحالين [فأما الأمن والخوف فقد أخبر أنهم يدخلون آمنين، مع علمه بذلك، فلا شك في الدخول، ولا في الأمن] أي: أنه كما يعلم أنهم يدخلون، يعلم أنهم يدخلون آمنين [ولا في دخول الجميع أو البعض، فإن الله قد علم من يدخل فلا شك فيه أيضاً] أي: أنهم وقعوا فيما فروا منه، فالله تعالى يعلم فيمن يدخل ممن لا يدخل، ومع ذلك قال: (إن شاء الله)، ثم قال: [فكان قول: (إن شاء الله) هنا تحقيقاً للدخول، كما يقول الرجل فيما عزم على أن يفعله لا محالة: والله لأفعلن كذا إن شاء الله] فالرجل من المسلمين إذا عزم على أن يفعل شيئاً مهما كان عازماً جازماً يقول: إن شاء الله، وليس هذا جائزاً فحسب، بل هو مندوب، وربما كان واجباً، والله يقول: (( وَلا تَقُولَنَّ لِشَيْءٍ إِنِّي فَاعِلٌ ذَلِكَ غَدًا * إِلَّا أَنْ يَشَاءَ اللَّهُ ))[الكهف:23-24]، فهذا أقل ما يقال فيه: الندب إن لم يكن واجباً، ولا ينبغي للمسلم أن يتركه؛ لأن كل شيء معلق بإرادة الله، وفيه من الفوائد الجليلة، ومنها: أن تعليق ذلك بإرادة الله تبارك وتعالى، ورد كل شيء إليه: (( وَمَا تَشَاءُونَ إِلَّا أَنْ يَشَاءَ اللَّهُ ))[الإنسان:30].
ومنها: أن العبد إذا عجز لسبب من الأسباب، وكان السبب خارجاً عن إرادته؛ فإنه لا يحنث إذا قال: إن شاء الله، وهذا مخرج وخير للمؤمن، والنبي صلى الله عليه وسلم جاءنا بالحنيفية السمحة الميسرة السهلة، و(ما خير رسول الله صلى الله عليه وسلم بين أمرين إلا اختار أيسرهما ما لم يكن حراماً)، فالإنسان يقول: إن شاء الله ولو كان عازماً؛ فإن حيل بينه وبين ما أراد فعله لم يحنث ولم يأثم، ثم يقول الشارح: (كما يقول الرجل فيما عزم على شيء أن يفعله لا محالة: والله لأفعلن كذا إن شاء الله)، قال: [لا يقولها لشك في إرادته وعزمه، ولكن إنما لا يحنث الحالف في مثل هذه اليمين] وهنا مسألة: لماذا قال الفقهاء: إن الحالف لا يحنث إذا علق؟ لأن الحلف لا يجوز بغير الله، فلو حلف بالطلاق لا يجوز، لكن لو علق الطلاق، كأن قال: لو فعلت كذا فأنتِ طالق إن شاء الله؛ فإنه لا يحنث كما قال الشارح رحمه الله: [لأنه لا يجزم بحصول مراده] وليس لأنه لم يعزم لفعل المراد، وإنما لا يجزم بحصول المراد، فهو عازم، فإذا قلت: آتيك غداً الظهر إن شاء الله، وأنا عازم أن آتيك، فقولي: إن شاء الله ليس إضعافاً للعزيمة والإرادة، لكن لأنني لا أعلم، فقد يتحقق لي ذلك أو لا يتحقق، أي: من عند الله، أما من عند نفسي فأنا عازم وجازم. فإذاً: الاستثناء يكون للتحقيق وليس للتعليق.
ثم يقول رحمه الله: [وأجيب بجواب آخر لا بأس به] أي: أن الشارح رحمه الله يقول: هذا الجواب يحتمل، وهو أن الله تبارك وتعالى عندما قال: (( لَتَدْخُلُنَّ الْمَسْجِدَ الْحَرَامَ إِنْ شَاءَ اللَّهُ ))[الفتح:27] قال رحمه الله: [وهو أنه إنما قال ذلك تعليماً لنا كيف نستثني إذا أخبرنا عن مستقبل] أي: أن الله عز وجل لا يتكلم بذلك، وهو مراده عز وجل ما عنده ما في نفسه عز وجل، إنما مراده التعليم لنا، فهي تدل أو تؤيد ما جاء في آية الكهف: (( وَلا تَقُولَنَّ لِشَيْءٍ إِنِّي فَاعِلٌ ذَلِكَ غَدًا * إِلَّا أَنْ يَشَاءَ اللَّهُ ))[الكهف:23-24] فكذلك إذا أخبرت عن أمر وأنت متأكد من وقوعه فقل: إن شاء الله؛ لأن الله تبارك وتعالى الذي يعلم السر وأخفى قد أخبر عن أمر هو أعلم بوقوعه وقال: إن شاء الله، وقول الشيخ: (لا بأس به) هنا؛ لأن عليه شيء من الاعتراض، لكن المعنى في ذاته مقبول، ثم يقول رحمه الله: [وفي كون هذا المعنى مراداً من النص نظر] أي: أن الله تبارك وتعالى أراد بقول: (إن شاء الله) في الآية أن يعلمنا أن يكون هذا هو المراد في ذلك نظر، قال: [فإنه ما سيق الكلام له إلا أن يكون مراداً من إشارة النص] أي: لم يورد هذا الكلام لغرض التعليم، لكن يؤخذ من دلالة الإشارة أو من دلالة الفحوى، يقول الشيخ المعلق هنا: (إشارة النص هو ما يدل عليه اللفظ بغير عبارته، ولكنه يجيء نتيجة لهذه العبارة، فهو يفهم من الكلام، ولكن لا يستفاد من العبارة ذاتها) أي: المدلول الذي يدل عليه النص أو الدليل من خارج العبارة، وليس من العبارة ذاتها، مثلوا له بقوله تعالى: (( وَعَلَى الْمَوْلُودِ لَهُ رِزْقُهُنَّ وَكِسْوَتُهُنَّ بِالْمَعْرُوفِ ))[البقرة:233] فهذا النص أفاد بعبارته: أن نفقه المولود على والده، وأفاد بإشارته: أن الولد تابع لأبيه منسوب إليه، أي: ما دام هو الذي ينفق عليه فهو تابع له منسوب إليه، يقول: وفي إدراك إشارة النص.. أي: أن المقصود إشارة النص، فهذه أشياء استنباطية يفهمها بعض الناس ولا يفهمها البعض الآخر، وهنا مثالاً لعله أوضح من هذا، وهو: ما فهمه عمر رضي الله تعالى عنه بعلمه وفهمه وتمكنه، فقد كان يجالسه كبار الصحابة، وكان يدني إليه من ليس من كبارهم في السن، كـعبد الله بن عباس رضي الله تعالى عنه، وقد سألهم رضي الله تعالى عنه عن قول الله تبارك وتعالى: (( إِذَا جَاءَ نَصْرُ اللَّهِ وَالْفَتْحُ * وَرَأَيْتَ النَّاسَ يَدْخُلُونَ فِي دِينِ اللَّهِ أَفْوَاجًا * فَسَبِّحْ بِحَمْدِ رَبِّكَ وَاسْتَغْفِرْهُ إِنَّهُ كَانَ تَوَّابًا ))[النصر:1-3] ما المراد منها؟ فأجاب كثير منهم فقالوا: أمر الله رسوله صلى الله عليه وسلم إذا فتح الله عليه أن يسبح ويستغفر، وهذا هو اللفظ، وليس فيه شيء أكثر من ذلك، لكن ابن عباس رضي الله تعالى عنه فطن إلى دلالة الإشارة أو إشارة النص فقال: هذا إشعار من الله لرسوله صلى الله عليه وسلم بدنو أجله، أي: أن رسول الله قد أدى المهمة بالفتح، واكتمل الدين، واكتمل الواجب الذي عليك، فبقي عليك الاستغفار، ونحن نعلم أن أي عمل نهايته الاستغفار، فإذا سلم العبد من الصلاة يستغفر؛ لأنه انتهى من العمل، ومن هنا نفهم أن النص له دلالة، وهناك دلالة إشارية بالإشارة أو بالفحوى خارج ألفاظ، وخارج عبارات النص يفهمها ويستنبطها من شاء الله ومن فتح الله عليه، وهذا كما هو أسلوب الشيخ الهروي الأنصاري في كتاب مدارج السالكين ؛ فإنه يذكر كثيراً من الأمور هي من باب الإشارة وليست من باب النص، كما أخذ من قوله تعالى: (( أَلَمْ تَرَ إِلَى رَبِّكَ كَيْفَ مَدَّ الظِّلَّ ))[الفرقان:45] فأخذ منها مقام البسط، والظل ليس له علاقة بالبسط الذي هو حالة نفسية عند الإنسان، وهكذا فهو نوع من الاستنباط، ولذلك نجد التفسير الصوفي للقرآن يسمى: التفسير الإشاري؛ لأنهم يستنبطون ويأخذون من الإشارة لا من فحوى النص، فلما يجد آية حتى لو كانت من آيات الرضاع، حتى لو كانت من آيات الطلاق، يستنبط ويأتي بمعنى إشارة، وبعضها حق وبعضها باطل، فمثلاً يقول الله تبارك وتعالى: (( وَقَالَتِ الْيَهُودُ وَالنَّصَارَى نَحْنُ أَبْنَاءُ اللَّهِ وَأَحِبَّاؤُهُ قُلْ فَلِمَ يُعَذِّبُكُمْ بِذُنُوبِكُمْ بَلْ أَنْتُمْ بَشَرٌ مِمَّنْ خَلَقَ ))[المائدة:18]، فقالت الصوفية : الحبيب لا يعذب الحبيب، فهم دائماً يزعمون حب الله، ويتغنمون وينشدون ويقولون: هذا كله في حب الله، فإذا قيل: هذا خطأ، قالوا: الحبيب لا يعذب الحبيب أبداً؛ لأنه قال: (قُلْ فَلِمَ يُعَذِّبُكُمْ بِذُنُوبِكُمْ..)، أي: لو كنتم أحباؤه ما عذبكم، وها نحن نحبه، فيستدلون بها خطأ، مع أنه فيها فحوى ومفهوم وإشارة إلى أن الله سبحانه وتعالى لو كانوا كذلك ما عذبهم، لكن لا يكونون أحباء الله إلا إذا استقاموا على طاعة الله، قال تعالى: (( قُلْ إِنْ كُنْتُمْ تُحِبُّونَ اللَّهَ فَاتَّبِعُونِي يُحْبِبْكُمُ اللَّهُ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ ))[آل عمران:31] وهكذا حتى يأتون بغرائب في هذا القبيل.
وقوله تعالى: (( وَيَسْأَلُونَكَ عَنِ الْمَحِيضِ قُلْ هُوَ أَذًى فَاعْتَزِلُوا النِّسَاءَ فِي الْمَحِيضِ ))[البقرة:222] فالآية واضحة الدلالة في الحيض، ولا يوجد أي تفسير غير هذا التفسير، فيقول الصوفية : المقصود به ما يخرج من القلوب من الغثاء والأكدار، وهذا كلام تجدونه في روح المعاني وأمثاله، وهو كلام لا حقيقة له من جهة اللغة ولا من جهة الشرع، وإنما هو كما يقولون: بالإشارة، أي: أشار إلى كذا، إذاً: التفسير الإشاري أو الاستنباط الإشاري منه ما هو حق، ومنه ما هو باطل، وليس المقصود من الآية ذلك؛ لأنها لو كانت كذلك لما قلنا: إنه من النوع الإشاري.